حيّرت المقالة النقاد الذين تعرضوا لهذا اللون من الأدب حينما حاولوا التعريف، واعترف غير واحد بصعوبة الوصول إلى تعريف شامل، فها هو محمد يوسف نجم يقول : « إذا ذهبنا نبحث عن تعريف جامع مانع للمقالة أعيانا البحث وضلت بنا سبله، شأننا في ذلك شأن هؤلاء النقاد الذين عجزوا عن أن يحيطوا هذا الفن الأدبي بتعريف دقيق؛ نظراً لتشعب أطرافه واختلاطه بالفنون الأخرى على صورة من الصور» ( 1 ).
ويعلّل محمد عوض محمد مشقة الوصول إلى تعريف للمقال بأنه « مطلب صعب دائماً، وهو أصعب ما يكون في ضروب الإنتاج العقلي؛ لأن التعريف لا يخلو من التحديد، والعقل البشري لا يخضع بسهولة للحدود والقيود» (2).
ومن هنا رأينا محمد العوين في دراسته للمقالة يتلمس أسباب ذلك فيقول: « لم يتفق النقاد على مفهوم محدّد للمقالة الأدبية، ويعود ذلك إلى تأخر نشأة المقالة ـ قياساً على الفنون الأخرى ـ وكان ذلك سبباً في أن يتأخر النقاش حول الشكل الفني للمقالة؛ لاستئثار الألوان الأدبية الأخرى باهتمام الدارسين والناقدين»(3).
ومن ثم رأينا تفاوتاً في تعريف المقالة، وربما كان من المهم أن نبدأ بتعريف (جونسون) الذي كان لتعريفه تأثير في ناقد عربي، وهو زكي نجيب محمود، يعرِّف جونسون المقالة بأنها « نزوة عقلية لا ينبغي أن يكون لها ضابط من نظام، هي قطعة لا تجري على نسق معلوم ولم يتم هضمها في نفس كاتبها، وليس الإنشاء المنغّم ـ في نظره ـ من المقالة الأدبية في شيء» (4).
ويبدو أن هذا التعريف الواسع الفضفاض قد أعجب زكي نجيب محمود حين نراه في كتابه « جنة العبيط» ينادي بمثل هذه الفكرة مع إضافة بعض الشروط العائمة التي تجعل من لون المقالة دون ضوابط ومقاييس واضحة، يقول: « المقالة هي ملاذ الأديب، ويجب أن تصدر عن قلق يحسه الأديب مما يحيط به من صور الحياة وأوضاع المجتمع بشرط أن يجيء السخط في نغمة هادئة خفيفة، هي أقرب إلى الأنين الخافت منها إلى العويل الصارخ» (5).
ويشرح محمود فكرته من اشتراط السخط في المقالة قائلاً: « هذا السخط على الحياة القائمة في هدوء وفكاهة، هذا السخط الذي لم يبلغ أن يكون ثورة عنيفة هو موضوع المقالة الأدبية بمعناها الصحيح، وشرط المقالة الأدبية أن يكون ناقماً، وأن تكون النقمة خفيفة يشيع فيها لون باهت من التفكه الجميل» (6).
والمقالة ـ في نظر زكي نجيب محمود ـ لا تبحث في موضوع مجرد، كأن تبحث معنى الجمال أو قاعدة في علم النفس أو التربية؛ « لأن ذلك يبعدها عن روح المقالة بمعناها الصحيح؛ ولأن المقالة تعبر قبل كل شيء عن تجربة معينة مست نفس الأديب»(7).
ويحذّر من تحول المقالة إلى خطبة فيقول: « نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه محدِّثاً لا معلماً، بحيث يجد القارئ نفسه إلى جانب صديق يسامره لا أمام معلّم يعنّفه.. نريد للقارئ أن يشعر وهو يقرأ المقالة الأدبية أنه ضيف قد استقبله الكاتب في حديقته ليمتعه بحلو الحديث، لا أن يحس كأنما قد دفعه دفعاً عنيفاً إلى مكتبته ليقرأ له فصلاً من كتاب!» (8).
ويخلص إلى أنه ليس للمقالة تبويب ولا تنظيم، وأن كاتب المقالة هو الذي تكفيه ظاهرة ضئيلة مما يعج به العالم من حوله، ويطالب الكاتب بأن تتضمن مقالته نكتة خفية وسخرية هادئة تأتي عفوية دون أن يشعر القارئ بأن الكاتب يعمد في كتابته إلى النكتة والسخرية»( 9).
وواضح أن هذا الوصف لم يقدّم تعريفاً محدّداً بقدر ما حاول أن يقدم صفات لكاتب المقالة، في حين لم يراع الألوان العديدة المتفرعة من المقالة التي قد يصعب اتصافها بكل هذه الشروط.
ومن الملاحظ أن الكتب التي تلت جنة العبيط لزكي نجيب محمود حاولت أن تقدم تعريفاً مختصراً دون الاهتمام بالتفاصيل، ومن ذلك تعريف محمد يوسف نجم للمقالة بأنها « قطعة نثرية محدودة في الطول والموضوع، تكتب بطريقة عفوية سريعة خالية من الكلفة والرهق، وشرطها الأول أن تكون تعبيراً صادقاً عن شخصية الكاتب»(10)، وتعريف محمد التونجي للمقال بأنه « تأليف أدبي موجز لا يتصف بالعمق، يتناول قضية ما قديمة أو حديثة، أدبية أو علمية، اجتماعية أو سياسية، نقدية أو ساخرة..ويدور المقال حول موضوع معيّن قد يقصر فلا يتعدى السطور أو يطول فيبلغ الصفحات»( 11).
ومنهم من عرّف المقالة بأنها « تعبير أدبي يبث الكاتب من خلاله ما يجد في قصد واعتدال دون التقيد بنمط ثابت، مادتها الأساسية ظاهرة أو حادثة أو نوع من المعارف مما يمر مر الكرام، يمسها الكاتب بقلمه فتمسي من معالم الحياة التي لا تخطئها الأبصار..» ( 12 ).
وقد حاول بعضهم أن يحدد حجمها بشكل تقريـبي، وضرب مثلاً بالعمود الصحفي الواحد؛ لأن الخروج بها عن حد الحجم المعقول يفضي بها إلى أن تكون بحثاً أو دراسة ( 13 ).
ومنهم من رأى تحديد الحد الأعلى من صفحاتها، وهو عشر صفحات( 14 ).
وإذا عدنا إلى ما تقدم من تعريفات للمقالة رأينا أن تعريف (جونسون) إن صدق على المقالة في طورها الأول، فهو لا يصدق عليها اليوم بعد أن تفوق كتّابها في إحكام نسجها وإتقان تأليفها(15).
وأما توصيف زكي نجيب محمود للمقالة فإنها لا تعين الكاتب على التجويد والإتقان؛ لأنها دعوة إلى إهمال الترتيب والتنظيم، وهذا لا يتوافق مع أهمية وجود تعريف جامع مانع يساعد على وضوح الجنس الأدبي في ذهن الكتّاب والمنشئين، علاوة على أن اشتراط النكتة والسخرية العفوية في المقالة قد يكون من المتعذر تحققه في بعض الألوان الجادة مثل المقالات الدينية والسياسية والتاريخية.
وربما يكون تعريف محمد يوسف نجم، وكذلك تعريف محمد التونجي من أفضل التعريفات التي توجهت للمقالة بقصد التوصيف، مع أن تعريف نجم يمكن أن ينطبق على الخاطرة أيضاً.
أما نفي العمق عن المقالة لدى التونجي فلا يعني الدعوة إلى أن تكون سطحية، بل ربما كان الهدف إخراج البحوث الموجزة من التعريف.
وبالنظر إلى الكم الكبير الذي أنتجه الكتّاب المقاليون منذ شيوع الصحف حتى الآن، وتنوعها، ومعالجتها للعديد من الظواهر في الحياة العامة، وتلبيتها لحاجة الصحف والمجلات الملحة لهذا اللون من الأدب، فقد رأينا المكتبة العربية تحتضن كتباً في مجلدات عدة كلها مقالات، ومن ثم أصبحت مهمة الدارسين والباحثين الذين يتصدون لتصنيفها عسيرة، فهناك مقالات نرى فيها بعض خصائص المقالة الأدبية، أو بعض صفات المقالة العلمية، أو بعض مظاهر المقالة الصحفية، فكيف نحدّد نوعها؟
يجيب عن هذا السؤال عطاء كفافي فيقول: « إن العبرة في هذا بالسمات الغالبة على المقالة، فليست هناك حدود فاصلة بين أنواع المقالات؛ لأن هذه هي طبيعة المقالة، إذ ليست لها تلك القوالب المحددة الصارمة»( 16).
وقد نتج عن هذه المشقة أن رأينا كل باحث يبتكر لنفسه أنواعاً من المقالة، ومن ذلك دراسة عبدالقادر الطويل لمقالات العقاد إذ قسّمها إلى: الصور الشخصية (القلمية)، والملحمية (النـزالية)، والدراسة الأدبية، والدراسة لشخصيات الأدباء، إضافة إلى الوصفية والثقافية والتأملية والنقدية والعلمية والفلسفية( 17).
ودراسة مصطفى البدري لمقالات الرافعي إذ قسّمها إلى: البيانية والفكرية، إضافة إلى الأدبية والاجتماعية والعلمية والسياسية( 18).
ودراسة أحمد عمران سليم للمقالة في ليبيا إذ قسّمها إلى: الاقتصادية والثقافية، ومقالة المناسبة، إضافة إلى الدينية والتاريخية والاجتماعية والنقدية والعلمية( 19).
وقد وقعت شخصياً في المأزق نفسه حينما أردت تصنيف مقالات حسين سرحان إبان دراستي لنثره في أطروحتي للدكتوراه، فقسمتها إلى: مقالة الشخصية، والرسائل المقالية، والمقالة الرحلية، إضافة إلى الدينية والاجتماعية والأدبية والسياسية.
ومن هنا رأينا أحد الباحثين في فن المقالة يسلم بهذه الصعوبة قائلاً: « كل المحاولات التي بذلت من أجل تصنيف المقالات على أساس النوع لم تصادف إلا نجاحاً محدوداً، ذلك أن المقالة تمثل جنساً أدبياً متغير الأشكال على النحو الذي يؤدي بها إلى أن تتخذ أشكالاً لا نهاية لها»(20 ).
وعلى أن أدب المقالة في نظر بعض النقاد هو « أسمى وأجمل وأبرع ألوان الأدب على الإطلاق»( 21 )، و» من أهم فنون الكتابة في حياتنا العربية الحديثة منذ فجر النهضة الثقافية العربية»( 22 )، فإن بعضهم يرى أن المقالة لم تأخذ نصيبها من الدرس إذ ينصرف جل اهتمام الدرس الأدبي إلى دراسة الشعر وإلى دراسة النقد، « تاركاً ما قد يتبقى من هامش ضئيل لفن المقالة»( 23 ).
وأما عن المقالة في المملكة العربية السعودية فقد تناولتها دراسة جامعية ابتداء من صدور جريدة أم القرى عام 1343هـ حتى عام 1400هـ، وهي أطروحة ماجستير للزميل الباحث محمد العوين تقدم بها إلى قسم الأدب بكلية اللغة العربية بالرياض التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1410هـ، ثم طبعت في كتاب عام 1412هـ بعنوان « المقالة في الأدب السعودي الحديث»، وأعيدت الطباعة عام 1426هـ/2005م.
وقد كانت مهمة الباحث عسيرة لطول مدة الدراسة ولكثرة الكتّاب المقاليين؛ ولذلك لم يستطع الإفاضة في الحديث عن الشخصيات بالتحليل الشامل لمقالاتهم جميعاًَ؛ ومن هنا كان لزاماً أن تتجه الدراسات اللاحقة إلى التخصص ودراسة كل شخصية على حده، ومن ذلك الدراسات التالية: فن المقال بين المازني والسرحان لعبير الجعفري، والمقالة في أدب محمود عارف لمنيرة المبدّل، والمقالة في أدب غازي القصيـبي لعلياء الغامدي، إضافة إلى دراسة اهتمت بالمقالة عند النساء فقط، وهي دراسة أمينة الجبرين « المقالة النسائية السعودية 1999ـ2009»( 24 ).
ونظراً لما تشكله المقالة في الوقت الحاضر من تنام وتأثير فقد تصدت جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن بالتعاون مع مؤسسة الجزيرة الصحفية بالرياض لعقد ملتقى عن المقالة هو الأول من نوعه في المملكة وذلك في شهر المحرم من عام 1432هـ (ديسمبر2010م).
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
lkhram ih]zm glk/vd hglrhgm >