عرض مشاركة واحدة
قديم 08-11-2011   #2



الصورة الرمزية مطلع الشمس
مطلع الشمس غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 7
 تاريخ التسجيل :  May 2010
 أخر زيارة : منذ 5 يوم (09:31 AM)
 المشاركات : 6,040 [ + ]
 التقييم :  63
 الدولهـ
Saudi Arabia
 الجنس ~
Male
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Darkgreen
افتراضي رد: المنصور .. محمد بن أبي عامر .



الدولة العامرية (366-399هـ= 976-1009م)

.استقرَّ الأمر لمحمد بن أبي عامر؛ فلقد أضحى الحاكم الفعلي لبلاد الأندلس؛ فهو الحاجب القوي، الذي يسوس البلاد والعباد، ويغزو صيفًا وشتاءً فينتصر في كل معاركه مع النصارى، بينما الخليفة الذي كان صغيرًا يكبر على مهل، ولا يدري من حال مملكته شيئًا.

وقبض الحاجب محمد بن أبي عامر على أَزِمَّة السلطان في الدولة، وصار إليه الأمر والنهي والتولية والعزل، وإخراج الجيوش للجهاد، وتوقيع المصالحات والمعاهدات، حتى عُرِفَ ذلك العهد بعهد الدولة العامرية.

والدولة العامرية هي ذروة تاريخ الأندلس، وأقوى فتراتها على الإطلاق، ففيه بلغت الدولة الإسلامية الغاية في القوَّة، فيما بلغت الممالك النصرانية أمامها الغاية من الضعف، وقد بدأت فترة هذه الدولة فعليًّا منذ سنة (366هـ= 976م)، منذ أن تولى محمد بن أبي عامر أمر الوصاية على هشام بن الحكم، وظَلَّت حتى سنة (399هـ= 1009م)؛ أي: أنها استمرَّت ثلاثًا وثلاثين سنة متصلة، وتُعَدُّ الدولة العامرية مندرجة في فترة الخلافة الأموية؛ لأن الخليفة ما زال قائمًا، وإن كان مجرَّد صورة.

ابن أبي عامر وتوطيد حكمه

من الأهمية بمكان -ونحن نناقش فترة محمد بن أبي عامر- أن نتذكر أنه بلا عصبة، أي ليست وراءه عائلة يتقوى بها، وتتعصب له على نحو ما كان مهيَّأ للعائلات الكبيرة؛ كبني أمية وبني العباس في المشرق، وغيرهم من العائلات الأقل، ولنتذكر أن عامل «العصبية» هذا هو الذي كان يحكم كل العالم إلى ما قبل أن تنشأ الجمهوريات الحديثة، فكان لا بُدَّ للملك أو الحاكم أن تكون له عصبة ترفعه وتحميه ويتكئ عليها.

وحين دخل عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس استفاد من تناحر العصبيات العربية الكائنة فيها، فحاول التحالف مع القيسية، ثم تحالف مع اليمنية وبهم انتصر، ولقد كان الداخل بعيد النظر حين علم أنه إن أراد إقامة دولة للإسلام فلا بُدَّ له من أن يقضي على العصبيات، وأن يتخذ لنفسه رجالاً لا عصبية لهم، فأكثر –رحمه الله- من اتخاذ الموالي، الذين صار لهم الشأن الأكبر في عهد الإمارة الأموية، بينما تراجعت رجالات العرب، وابتعدت عنهم المناصب، وصاروا في الدولة في مكانة تشريفية؛ يحضرون المجالس ويُقَدَّمون في المناسبات، وما إلى ذلك.

وكذلك -أيضًا- فعل عبد الرحمن الناصر؛ فلقد أكثر من الاعتماد على البربر الذين عبروا إلى الأندلس من عدوة المغرب، ونستطيع أن نقول بأن نجاح الدولة الأندلسية كان من أهم أسبابه اختفاء العرب ذوي العصبيات من مناصب الحكم.

وكذلك فعل ابن أبي عامر؛ فلقد كان البربر عُدَّته ورجاله، ولقد استكثر منهم، وضمهم إليه واستقوى بهم، وكان ابن أبي عامر قد تولى قضاء عدوة المغرب في أيام الحكم المستنصر، وساهم بذكائه وحسن سياسته في جعل أهم قبائل البربر المغربية -وهم بني برزال، وزعيمهم جعفر بن حمدون- يتخلَّوْن عن تحالفهم مع العبيديين (الفاطميين)، وينحازون بالولاء إلى قُرْطُبَة عاصمة الأمويين، وكان من نتائج هذا أن فقد العبيديين (الدولة الفاطمية) المغرب الذي خلص من بعد للأمويين[1].

فالآن نحن أمام رجل ذكي موهوب، حسن السياسة، يتولَّى حكم الأندلس فعليًّا باسم الخليفة الغلام هشام المؤيد بالله، وصحيح أن الأندلس قد خلت من الرجال الأقوياء، الذين يبلغون منافسته في الحكم –اللهم إلا فارس الأندلس العظيم غالبًا الناصري، وهو صهره الآن وعلاقتهما طيبة وبينهما تحالف- إلاَّ أن هذه السياسة تجعله في خطر من بني أمية، الذين يرون الملك باسمهم، ولكن فعليًّا ليس بأيديهم، وكذلك المصحفيين الذين نُكبوا وزالت سطوتهم بزوال الحاجب جعفر المصحفي.

وبعد قليل سيظهر في الأفق خصم شديد الخطر عظيم الذكاء، إنها صبح، أُمُّ الخليفة هشام، والتي سترى أن الخلافة تخرج من بين يدي ولدها، وأن ابن أبي عامر يُسيطر بنفسه على الأمور.

مدينة الزاهرة


كما أنشأ عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- مدينة الزهراء في الشمال الغربي من مدينة قُرْطُبَة؛ لتكون مركزًا لخلافته، قام محمد بن أبي عامر بإنشاء مدينة ملوكية جديدة في شرق قُرْطُبَة سمَّاها مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية، بدأ في بنائها عام (368هـ)، وانتقل إليها بعد اكتمال بنائها في (370هـ)، نقل إليها الوزارات ودواوين الحُكم، وأنشأ له قصرًا كبيرًا هناك، حتى أصبحت مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية هي المدينة الأساسية في الأندلس وبها قصر الحُكم[2].
وكان إنشاء هذه المدينة يُحَقِّق هدفين مهمين؛ الأول: هو الابتعاد عن مناطق الخطر والمؤامرات حيث مواطن الأمويين، وحيث قصر الخليفة وأمه، ومن غير المأمون أن تُدَبَّر عليه مؤامرة بيد الأمويين أو مواليهم أو بعض فتيان القصر. والثاني: هو ترسيخ وتثبيت شأنه في الدولة، وخطوة على طريق الانفراد بشئون الدولة وإدارتها.

قدوم جعفر بن حمدون

استدعى ابن أبي عامر (في عام 370 هـ) فارس المغرب وزعيم بني برزال جعفر بن حمدون، وقد ذكرنا أنه قد كانت بينهما صلة قديمة منذ كان ابن أبي عامر قاضيًا في المغرب، فنزل جعفر إلى الأندلس وقربه ابن أبي عامر ورفع من قدره، ولا شَكَّ أن في هذه الخطوة تقوية لمركز وقوة ابن أبي عامر، فجعفر فارس كبير وشخصية قوية، ثم هو زعيم البربر الذين سيزداد ولاؤهم لابن أبي عامر بنزول زعيم منهم في كنفه، وأن يصير من رجال الدولة وفرسانها.

إلاَّ أن هذا النزول وهذه النتائج لم تكن بالتي تغيب عن ذهن فارس الأندلس غالب الناصري، والذي رأى في وجود جعفر منافسة له، بل وربما تحديًا، يُثبت أن الدولة تستطيع الاستغناء عنه بغيره، وأنه لم يَعُدِ الوحيد المختص بجهاد العدوِّ، ولم يَعُد الدِّعامة التي يُستند إليها في مهمات الحرب الجليلة.

ولا شَكَّ أن ابن أبي عامر استفاد من درس الماضي القريب؛ حين كان المصحفي في الحجابة، وثار العدو بثغور الأندلس فلم ينهض إليهم غالب لإحراج المصحفي ولإثبات مكانته من الدولة، فأحب أن يتجنَّب تكرار هذه الأزمة، وتورد بعض الروايات أن غالبًا كان بالفعل «يستطيل على ابن أبي عامر بأسباب الفروسية، ويُباينه بمعاني الشجاعة، ويعلوه من هذه الجهة التي لم يتقدَّم لابن أبي عامر بها معرفة»[3].

ومن ثَمَّ ساء الجوُّ بين غالب وابن أبي عامر.. ووقع الحدث الخطير، وهو تمرد غالب الناصري.

تمرد غالب الناصري

خرج المنصور إلى غزوة من غزواته في الصوائف إلى قشتالة، فدعاه غالب الناصري إلى وليمة أقامها بمدينة «أنتيسة» وعزم عليه في حضورها، ولما ذهب ابن أبي عامر جرى بينهما نقاش واحتدَّ حتى «سبَّه غالب وقال له: يا كلب؛ أنت الذي أفسدت الدولة، وخربت القلاع، وتحكمت في الدولة. وسل سيفه فضربه»[4]. ولولا أن أحد الحاضرين أعاق يده فانحرفت ضربة السيف لكانت الضربة قد قتلت ابن أبي عامر، ولكن أصابته بشجٍّ في رأسه.

ولحسن حظِّه استطاع ابن أبي عامر أن يُلقي بنفسه من فوق القلعة، وأن ينجو من هذا المأزق الخطير بما فيه من إصابات، ثم عاد إلى قُرْطُبَة وقد استُعلنت بينهما العداوة.

جهز ابن أبي عامر جيشًا من قُرْطُبَة ثم سار به إلى ملاقاة غالب الناصري، وهنا وقع الفارس العظيم في خطأ قاتل، كان أسوأ خاتمة لحياة اتصلت ثمانين عامًا حافلة بالجهاد، لقد اتصل غالب الناصري براميرو الثالث ملك ليون، وطلب منه النجدة ضد جيش قُرْطُبَة، فأمده راميرو بجزء من جنده.

ويستطيع المرء أن يتخيَّل السعادة التي حازها راميرو حينما يجد الفارس الكبير الذي أذله وبلاده كثيرًا في موقف المستنجد به، ولعلَّه أمَّل في أن يكون هذا بداية تحالف طويل بينهما.

نهاية غالب الناصري

التقى الجيشان؛ جيش قُرْطُبَة يقوده ابن أبي عامر في القلب وعلى الميمنة فارس المغرب –الذي صار فارس المغرب والأندلس- جعفر بن حمدون، وعلى الميسرة الوزير أحمد بن حزم (والد الإمام الكبير ابن حزم) وغيره من الرؤساء، أمام جيش غالب الناصري ومعه جيش ليون.

ومع أن غالبًا الناصري كان قد بلغ الثمانين إلاَّ أنه هجم على الميمنة فغلبها ومزَّقها، ثم عاد وهجم على الميسرة فغلبها ومزَّقها، وما هو إلاَّ أن واجه القلب، وفيه ابن أبي عامر. وإنه من المثير حقًّا أن نشاهد هذا اللقاء بين الرجلين اللذين لم يُهزما حتى الآن، واللذين ستكون هزيمة أحدهما هي الأولى -وربما الأخيرة- في حياته، فيختم بها سجل تاريخه.

رفع غالب صوته قائلاً: «اللهم إن كنتُ أصلح للمسلمين من ابن أبي عامر فانصرني، وإن كان هو الأصلح لهم فانصره». ثم حدث أعجب ما يمكن أن يُتصور في هذا الموقف، ولولا أنه وصل إلينا من رواية صحيحة ثابتة لما صدقه أحد من المؤرخين[5]، لقد مشى غالب بفرسه إلى خارج الجيشين، فَظَنَّ الناس أنه يُريد الخلاء، ثم طال غيابه، فذهب بعض جنوده للبحث عنه فوجدوه ميتًا بلا أثر ولا ضربة ولا رمية، فعادوا بالبشرى إلى ابن أبي عامر.

وأراد الله أن يموت الرجلان ولم ينهزم أحدهما، ولعلَّه استجاب إلى دعاء غالب، فأبقى للمسلمين مَنْ هو أصلح لهم[6]، إلاَّ أن هذا الحادث المفاجئ أسفر عن تطور لم يتوقَّعْه أحد؛ إذ انحاز جيش غالب المسلم إلى جيش قُرْطُبَة فوقع جيش ليون في المأزق الكبير!

بقي أن نذكر -قبل أن نتجاوز قصة تمرُّد غالب الناصري- أن بعض المؤرخين يتوقَّع أن من أسباب تمرُّد غالب الناصري ما قد يكون تحريضًا من صبح أم الخليفة الفتى، التي بدأت ترى أن الملك يذهب من بين يدي ولدها.

غزو الممالك النصرانية

استدار جيش ابن أبي عامر -الذي انحاز إليه جيش غالب- ليواجها جيش ليون، لتبدأ غزوات الممالك النصرانية، التي استمرَّت بعدئذٍ سبعة وعشرين عامًا، وانتهت جميعها بالظفر للمسلمين.

قصد ابن أبي عامر إلى مدينة سمورة –التابعة لمملكة ليون- ليُعاقب ملكها راميرو الثالث، وحاصرها واستولى على ما حولها، وفرت أمامه الجيوش، حتى طلب راميرو المساعدة من غرسية صاحب قشتالة، وسانشو ملك نافار، وعقدوا تحالفًا ثلاثيًّا، وسارت الجيوش المتحالفة إلى لقاء جيش المسلمين فهُزموا شرَّ هزيمة، ثم زحف الجيش الإسلامي في خطوة بالغة الشجاعة إلى مدينة ليون عاصمة المملكة، ووصلوا فعلاً إلى أبوابها، إلاَّ أن نزول الشتاء والثلوج دفعا بالجيش إلى الرجوع دون إكمال فتح المدينة، فعاد الجيش إلى قُرْطُبَة، وكان ابن أبي عامر يحمل معه مفاجأة:

الحاجب المنصور

بعد عودة الجيش الإسلامي إلى قُرْطُبَة مكللا بهذا الظفر الكبير؛ القضاء على تمرُّد غالب الناصري، ثم هزيمة جيش ليون، ثم هزيمة جيوش النصارى المتحالفة، ثم الوصول إلى أبواب ليون، قام محمد بن أبي عامر (في سنة 371هـ=982م) باتخاذ لقب ملوكي، فلَقَّب نفسه بالحاجب المنصور، وقد كانت الألقاب من قبلُ عادة الخلفاء، ثم أصبح يُدعى له على المنابر مع الخليفة هشام بن الحكم، ثم نُقش اسمه على النقود وعلى الكُتب والرسائل[7].

ومن ذلك التاريخ عُرِف محمد بن أبي عامر بهذا اللقب: الحاجب المنصور (Al manzor).

كان عهد المنصور بن أبي عامر في الذروة من القوة والكفاءة، فعلى المستوى الخارجي جهاد دائم، يخرج المنصور مرتين في العام فينتصر، وعلى المستوى الداخلي فاض الأمن والرخاء، وبلغت الحضارة والمدنية آفاقها السامقة.

وكانت الدولة العامرية تحت السلطان الكامل للحاجب المنصور، ويختفي تمامًا ذكر الخليفة هشام، الذي ظلَّ حبيس قصره الفاخر في الزاهرة، لا يتولَّى من أمر الملك شيئًا؛ لذا تختلف الروايات التاريخية إلى حدِّ التضارب في حاله؛ فمن رواياتٍ تذكر أنه كان منصرفًا للعبادة مقبلاً على العلم كثير الإنفاق على المحتاجين[8]، إلى رواياتٍ أخرى تقول بأنه كان منصرفًا إلى اللهو والعبث ومجالسة الجواري والاهتمام بالتفاهات[9]، إلى روايات أخرى تصفه بالذكاء والحكمة والمروءة[10]، إلاَّ أنه كان مغلوبًا على أمره، ليس بيده شيء يمكنه به استرجاع ملكه في ظلِّ السيطرة الكاملة والشاملة للمنصور على مقادير الأمور.

بعد التمهيدات السابقة وفي الطريق نحو عهد جديد قام المنصور بن أبي عامر في سنة (381هـ=991م) بأمر لم يُعهد من قَبْلُ في تاريخ الأندلس؛ بل في تاريخ المسلمين، حيث عهد بالحجابة من بعده لابنه عبد الملك بن المنصور، وكان المشهور والمتعارف عليه أن يكون العهد بالخلافة، وأن يكون من الخليفة نفسه، ثم بعد خمس سنوات أي في سنة (386هـ= 996م) اتخذ لنفسه لقب الملك الكريم


 


رد مع اقتباس