التصنيف الثاني:
أما الحواس الخمس، بمعرض الإيحاء بأحاسيسها، أي من حيث تأثير بعضها في بعضها الآخر، فيمكن تصنيفها في هرم حسي منكوس، ذروته في الأسفل، وقاعدته إلى الأعلى. وذلك لتظل الحواس مع هذا الوضع الجديد في الهرم المنكوس على ترتيبها السابق:
منطقة المشاعر الإنسانية
حاسة السمع حاسة السمع
حاسة البصر حاسة البصر
حاسة الشم حاسة الشم
حاسة الذوق حاسة الذوق
حاسة اللمس حاسة اللمس
1-فحاسة اللمس تبدأ بالذروة المنكوسة من الهرم، وهي لاتنقل إلينا من خصائص الأشياء إلاّ الأحاسيس اللمسية. فملامس الأشياء لا توحي بطعمها أو رائحتها أو لونها أو صوتها. وهكذا فإن حاسة اللمس مغلقة على ذاتها كما الذروة المنكوسة من الهرم، وكما الغريزة الجنسية: عمى عن أي إحساس آخر أو شعور.
2-ثم تأتي فوقها حاسة الذوق، لكل مذاق إحساس لمسي معين. ففي طعم الحلاوة مثلا، نعومة ودفء، وفي الحموضة صلابة وبرودة، وفي البهارات خشونة وحرارة.....على أن المذاقات لاتتوضح على حقيقتها إذا لم تشترك معها حاسة الشم كما في حالة الزكام، إلاّ أن حاسة الذوق لا تستطيع الإيحاء بأي رائحة أو لون أو صوت.
3-ثم تأتي حاسة الشم. لكل رائحة إيحاء بإحساس لمسي ومذاق . ففي الروائح العطرية مثلا، ملامس بين الحرير والمخمل نعومةً، ومذاقات بين طعم العسل ومنوع الفواكه، وفي الروائح الأخرى ملامس من الجفاف والخشونة والوخز والحرارة والبرودة، ومذاقات من الملوحة والحموضة والمرارة والدسم وما بينها، مما لا يحصى من الملامس والمذاقات. على أن الروائح لا توحي بأي لون أو صوت.
4-ثم تأتي حاسة النظر، فتوحي الألوان والخطوط بمختلف الأحاسيس اللمسية والذوقية والشمية. على أن حاسة النظر إذا كانت لاتنبئنا على واقع التجربة ببعض ملامس الأشياء ومذاقاتها وروائحها إذا لم تدخل في نطاق تجاربنا السابقة عن طريق الذاكرة، فإن الألوان والظلال والأشكال لها في الحقيقة إيحاءات لمسية وذوقية وشمية، وإن لم تتطابق مع واقع هذه الأحاسيس نفسها. فيكفينا من لوحات عباقرة الرسامين أن توحي للعين بمختلف الملامس والمذاقات والروائح، إذا ما تمازجت ألوانها وظلالها وخطوطها على أيديهم، ولا روائح، ولا مذاقات ولا ملامس إلاّ أحاسيسهم يصبونها في لوحات. لتقف ريشة الفنان عند هذا السقف ، فلا تستطيع ألوانه وخطوطه وظلاله أن توحي بالأصوات، مالم تتدخل الذاكرة بصورة غير مباشرة عن طريق التداعي : (صورة عاصفة وضجيجها، جدول ماء وخريره).
5-وأخيراً تأتي حاسة السمع في القاعدة المقلوبة إلى أعلى، ملتقى لجميع الأحاسيس. بعض الأصوات يوحي بأحاسيس لمسية معينة. وبعضها الآخر يوحي بأحاسيس ذوقية أو سمعية أو بصرية، ولكن ما أن تتداخل الأصوات الموسيقية وتتماوج على يد فنان عبقري، حتى تستطيع الأذن المرهفة الحس المدربة، أن تستوحي من الأعزوفة مختلف الأحاسيس والمشاعر الإنسانية التي خطرت في ذهن مبدعها الفنان. ولو لم تكن الأصوات الموسيقية أوعية زمنية معبأة بمختلف الأحاسيس والمشاعر، لكانت شيئاً لا يطاق من آليّ الاهتزازات والانعكاسات، لاحياة فيها ولانماء ولا إحساس.
لنخلص من هذا التصنيف إلى أن الأحاسيس اللمسية كامنة في الحواس جميعا، تشدها إلى الأرض وتربطها بالأحاسيس المادية. كما أن حاسة السمع تستوعب أحاسيس جميع الحواس، كناية عن قدرة الزمان على تجاوز المادة والمكان استيعابا لهما وفيضا عليهما. ومن هنا كان الزمان من حيث وعينا له يتصف بالوحدة والعمق. تكثيفا لمختلف الأحاسيس والانفعالات في وحدات من الأصوات. بينما يتصف المكان بالتشتت والبعد: توزيعا لمختلف الأحاسيس على مختلف الحواس في صور مادية محسوسة.
وهكذا تتداخل الأحاسيس مع المشاعر الإنسانية عن طريق التجربة والمعاناة من خلال معانيهما.