حديث الأطلال
وقفت عليها بعد حين من الدهر ، فجالت في ذاكرتي تلك الذكريات الجميلة ، وعدتُ في الزمن الغابر ردحاً .
عاد كل شيء فيَّ .. ذاكرتي ... روحي ... نفسي .. وكل شيء عاد لتلك الفترة الغابرة عدا هيكل جسدي ، فلم يعد سوى تمثالاً منصوباً في ناحية من الطلل البالي ، من يراني قال : ماذا يُمَثل ذلك النُصُب ؟! لما يرى من سكون الجسد الواقف هناك .
أنا في تلك اللحظات هائم وسارح بفكري ومخيلتي فيما مضى من زمن ، روحي تتنقل هنا وهناك ، في كل مكان وقفت فيه ونشأ لي فيه حدث ، يرشدها في ذلك بصري الذي لم يعد سواه يتحرك في تمثال جسدي الواقف .
أسمع الحديث في داخلي تارة يستلهم حديثاً دار بيننا في مكان ما ، وتارة تشتعل منه جوانحي بشرارة ذلك الحديث الصامت الخفي .
وتتجول روحي في أرجاء ذلك الطلل البالي ، عبر زمنٍ قد خلا وولى ، وتتحدث إلى وتذكرني ...
أتذكر هذا المكان ؟ جلستم هنا ! أتذكر ما دار بينكم من حديث ؟! وأتذكر .. أتذكر .. إلى أن دبت حياة الماضي في أوصالي وكأنها النار في الهشيم .. ذكريات ، وجوى ، وكل ما في تلك الحقبة من الزمن .
فأعود في ذلك الزمن لحظة بلحظة وكأني بتلك الأطلال قد عادت للحياة من جديد لأنني أعيش تلك الأيام في لحظة عابرة استوقفتني الأطلال رغماً عني عندما مررت بها ، ولكنها لم تكن سوى لحظة حلم وقد مضى .
وكأنني عندما أفقت منه كالفتية الذين أووا إلى كهفهم ولبثوا فيه - ثلاثمائة سنينَ وازدادوا تسعاً - حيث أووا إليه وقريتهم بالأمس عامرة فلما أفاقوا وجدوها قد صارت خراباً وتحولت إلى أثر بعد عين . وهذا هو حالي عندما أفقت من تلك اللحظة ، ومن ذلك التأمل وجدت أنه لم يكن هناك سواي أتحدث مع نفسي عن زمن قد مضى وولى وفتحت عيني وإذا بي أرى تلك الأماكن أصبحت أطلالاً بالية وقفراً بلاقعاً .
وأجيل ببصري في الأرجاء لمحاً دون التفات بهدوء رهيب كلمح الذي يخشى أن ينفر طائراً من فوق غصنه ، فلم ارَ سوى أزهاراً شاحبة قد ذبلت .. تتحرك بهدوء يملؤه الحزن والأسى ، وهي مع اهتزازاتها يهتز لها خافقي وتتحرك المشاعر من جديد فتمر على جراح كانت قد هدأت ولكنها لم تندمل فتثيرها من جديد وتلهبها فتثور الآلام والأحزان وتعود الأنات ولها حنين كحنين بازل قام بحمله .
وأصيخ بسمعي لتلك الأصوات المتداخلة في الأنحاء فكانت أصوات العصافير المغردة ، كأنها تعزف لي الألحان الحزينة وتذكرني وتهيج لواعجي بتلك الشقشقات والنغمات الحزينة بالنسبة لي ، وتهيج أشجاناً كان القلب قد نسيها واختفت لبعض الوقت تنتظر من يهيجها لتثور من جديد .
أسمع صوت الرياح تضرب في ذلك الوادي ولها صوت دؤوب تارة تبعث الخوف ، وتارة تثير الحزن ، وتارة تتحول إلى نسمة حزينة تمر على هيكلي بسلام المفارق ، وعزاء المكابد .
تتسلل خلسة بين الأغصان والأعشاب وكأنها تدغدغها فتحركها حتى جعلت منها أداة تصلي بها ناراً في أعماقي .
ولا زلتُ واقفاً ..
كأنني تمثال ... أريد أن أقول شعراً فلم استطع لأن الحدث أكبر من الكلمات ، وأغوار الزمن الماضي أعمق من أن تحيط بها العبارات ، فاكتفيتُ بالاحتراق في داخلي حتى ذابت تلك الكلمات والعبارات في أعماقي فأصبحت رماداً تختزن تحتها النار ، تثيرها النسمة الآتيه من تلك الأطلال فتعود لتشتعل من جديد .
فأدير دفة سفينة الزمن إلى لجج بحر الذكريات سنين مضت وأخوض غمارها .. وقودها الشوق والحنين ، فسمعت حديث الأطلال كأنها تعاتبني وتسألني أين أنتم ؟ ومذا حل بكم ؟ ومن فعل هذا بكم ؟
فأجيبها وأنا أكاد أختنق . أتجرع الغصص ... لا تلوميني فلست السبب في كل هذا وما أنا إلا ضحية واشٍ أو تقليد اجتماعي بغيض ، كتب عليَّ فيه أن أشقى بذلك الحب التليد حتى أصبحت حياتي أطلالاً كما صرتي أنت أطلالاً فلا تعذليني .
( وللأطلال حديث مستمر )
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
p]de hgH'ghg