في مدينة ميلان الإيطالية وُلِدت ماريا غايتانا أنيزي ـ 1718 – 1799 ـ Maria Gaetana Agnesi عالمة الرياضيات واللغوية والفيلسوفة، وها نحن نشهد هذا الشهر مايو 2014 ذكرى مرور 296 عامًا على ولادتها.
تفجرت موهبتها وظهرت منذ طفولتها، وذلك حين استطاعت إتقان عدة لغات، فتحدثت اللاتينية بطلاقة وهي لم تتجاوز التاسعة من عمرها، بعد ذلك بعام استطاعت إتقان اللغة اليونانية، وحين بلغت الثالثة عشرة من عمرها أتقنت العبرية، والفرنسية، والألمانية، والإسبانية.
ولدت “ماريا” في نطاق عائلة كبيرة، فهي الابنة الكبرى من عائلة مكونة من 21 طفلاً كانوا نتاج ثلاث زيجات لوالدها. شهرتها وأهم إنجازاتها تمثلت في مجال الرياضيات وشغفها به، والذي يبدو أنها ورثته عن والدها بروفيسور الرياضيات الرجل الثري الذي عمل في تجارة الحرير. هو الذي لاحظ موهبة ابنته وتفوقها منذ طفولتها؛ مما جعله يشجعها على تطوير هذه الموهبة بكل الإمكانيات التي أتيحت له، فحرص على أن تحاط بأجواء تناسب وتنمي موهبتها، فكان يقوم دائمًا بدعوة أكثر وأهم الرجال علمًا وتفوقًا في منزله ليعقد فيه جلسات جرت خلالها نقاشات بين الحاضرين عن مختلف العلوم والفنون، وكانت “ماريا” رغم خجلها الشديد تشاركهم هذه الجلسات، بل وكانت عضوًا فاعلاً فيها تناقش وتجادل وتعطي رأيها بكل ثقة، وظلت مواظبة على حضور هذه الجلسات حتى وفاة والدتها، واعتذرت بعدها من والدها عن المشاركة لتنصرف لرعاية إخوتها وتعليمهم.
في ظل هذه الأجواء نشأت “ماريا”، ومن حب وعطف والدها وبسبب رعايته لها تبلورت موهبتها وتعززت. هي التي قررت أن تتجه إلى الرهبنة حين بلغت العشرين عامًا، إلا أن معارضة والدها لهذا الأمر جعلها تتراجع عن قرارها لتكرس نفسها بعد ذلك لدراسة الرياضيات.. رغم أنها تحملت مسؤولية إدارة المنزل بعد وفاة والدتها المبكر إلا أن والدها ظل يشجعها على مواصلة الدراسة والبحث. أول مؤلفاتها كان كتاب كتبته حين بلغت عشرين عامًا من عمرها وهو (“Propositions of Philosophy”) ونشر عام 1738 وهو عبارة عن مجموعة من المقالات كتبتها “ماريا” حول الفلسفة والطبيعة والتاريخ، بالإضافة إلى آرائها الواضحة والتي ذكرتها في هذه المقالات حول ضرورة تعليم وتثقيف المرأة. هذا الكتاب كان -بلا شك- حصيلة حضورها ومشاركتها الفعالة في التجمعات التي كانت تدار في منزل والدها الذي كان يتفاخر بتميز وذكاء وفطنة ابنته أمام الحضور. أما كتابها الثاني وهو الذي صنف على أنه عملها الأهم فنشر عام 1748، فكان عن التفاضل والتكامل، وهو “المؤسسات التحليلية، والتعامل مع التفاضل والتكامل”. ولقد أثار ضجة كبيرة حينها في العالم الأكاديمي، وترجم للغات عدة، بل وأدخل رسميًّا في المناهج الدراسية.
ومن أبرز المواقف الطريفة التي تُذكر عن حياة “ماريا” هو عملها ومشيها أثناء نومها، فكانت تدرس الرياضيات لساعات متأخرة من الليل، وحين تعجز عن حل مسألة معينة تترك أوراقها وتذهب إلى النوم، وحين تفيق في اليوم التالي تجد أن المسألة قد حلّت وبخط يدها، رغم أنها لم تكن تتذكر حينها أنها كانت تستفيق من نومها لحل المسائل الرياضية، إلا أنها أقرت بعد ذلك أنها لربما كانت فعلاً تستفيق أثناء نومها لحل المسائل التي استعصت عليها قبل ذهابها للنوم!
لم تكن “ماريا” أول امرأة عالمة في مجال الرياضيات في العالم، فلقد سبقتها “هيباتا السكندرية” -نسبة إلى مدينة الإسكندرية حيث عاشت- وهي أول امرأة برز اسمها كعالمة في عالم الرياضيات، وللأسف كانت نهايتها مأساوية بعد أن قُتلت بوحشية وسلخ جلدها على يد مجموعة من القتلة. من بعد “هيباتا” جاءت “ماريا”، صحيح أنها لم تكن الأولى، ولكن هذا لا ينفي أنها كانت رائدة من رواد علم الرياضيات بعد “هيباتا”، وهي أول عالمة رياضيات في العالم الغربي، وكانت أول من ألَّف كتابًا يناقش في علم التفاضل والتكامل، والذي اعتبرته الأكاديمية الفرنسية للعلوم بأنه الأطروحة الأكثر تكاملاً .
عينت في جامعة “بولونيا” لتعليم الرياضيات في عام 1750 من قبل البابا “بنديكت الرابع عشر” الذي أعجب بمهاراتها وبعلمها إلا أنها لم تمارس هذه المهنة قط، لكنها عينت كعضو فخري في هذه الجامعة لاحقًا.
عاشت “ماريا” في زمن عصر النهضة حيث كانت المرأة في إيطاليا تشجع وترتفع مكانتها إذا ما تميزت في أي مجال، وكانت المرأة تنال إعجاب الرجل في حال تفوقها في العلوم والفنون، ولا يخفى على أحد البصمة التي تركتها المرأة الإيطالية في تلك الفترة من الزمن في مختلف المجالات، ورغم هذه الأجواء المشجعة التي كانت تحيط بها إلا أن تطلعاتها نحو الدين لم تخبُ ولم تغادرها قط لكنها أجلتها فقط نزولاً عند رغبة والدها الذي توفي وهي في بداية الثلاثينات من عمرها، لتتخلى بعد وفاته عن الرياضيات بشكل نهائي، وتتفرغ لدراسة اللاهوت ولأعمال الخير حتى إنها بدأت باستقبال العجزة والمرضى في بيتها الذي حولته إلى ما يشبه الملجأ لهم.
لم تكن “ماريا غايتانا أنيزي” هي وحدها صاحبة الموهبة في المنزل، فكانت أختها الصغرى “ماريا تيريزا بينوتي” صاحبة موهبة في عالم الموسيقى، إلا أنها اختلفت عن أختها الكبرى بحبها للحياة وشغفها الذي نمته في عالم الغناء والتلحين مما جعلها من أشهر فناني عصرها. أما عالمتنا الجليلة فاعتزلت الحياة ولم تتزوج، بل ظلت ترعى كبار السن والعجزة حتى يوم وفاتها عن 81 عامًا، وكان قرارها برفض الزواج وتكريس حياتها لعمل الخير نابعًا من تدينها بالدرجة الأولى، ولحجم المسؤولية الذي تحملته “ماريا” تجاه أخواتها بعد أن فارقت والدتها الحياة بحكم كونها الأخت الكبرى. رغم أن حب الخير ومساعدة العجزة والمحتاجين هو أمر نبيل وواجب إنساني لكن ماذا كان سيحصل لو لم تفارق “ماريا” عالم الرياضيات إلى غير رجعة، ولم تتفرغ للعمل الخيري؟!
المتابع لحياة هذه العالمة يستطيع الجزم بكل تأكيد أنها لم تكن تلهث وراء الشهرة قط، ولم تطمح لتخطف الأضواء أبدًا، بل كانت الرياضيات بالنسبة لها مجرد هواية لا غير. لكن الإسهامات التي تركتها من خلفها كانت كافية لتكون بصماتها واضحة في الرياضيات، ولتكون “ماريا غايتانا أنيزي” من أبرز أعلام إيطاليا والعالم الغربي الذين خلدهم التاريخ.
منقول .
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
lhvdh yhdjhkh Hkd.d>>