لو وضعتَ آياتِ غزوةِ بدرٍ وحُنَينٍ في ميزان، وقابلتَ فيما بينهما لتستنبطَ سنن الله في التاريخ، لأدركت بُعْدَ مقولات الكيف والكم في هاتين الغزوتين.
ففي غزوة بدرٍ نقرأ قوله -تعالى-: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ [الأنفال: 9]، ولعل الفعلَ المستخدم "استغاث" يُصوِّرُ لك صعوبةَ الموقف الذي كان المسلمون في مواجهتِه جرَّاء قلَّةِ عددِهم وعُدَّتِهم، لكن النتيجةَ التي آلت إليها معركة بدرٍ قَلَبت موازين الكمِّ الجاهلي ليُؤسِّس في العقلية الإسلامية آنذاك مفاهيمَ الكيف ومدى أهمية استحضارِه في الإنتاج الفكري والحياتي.
لكن مفاهيمَ الكمِّ الجاهلي ما عادت أن استيقظت في غزوةِ حُنَينٍ من قِبَل البعض، فأعلنوا اتِّكاءهم على الكم، قائلين: "لن نُهزَم من قلَّة"[1]، فجاء التعقيب الإلهي مبيِّنًا خطأ هذا الاتِّكاء: ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾ [التوبة: 25]، وكلمة ﴿ مُدْبِرِينَ ﴾ التي هي حالٌ تُقرِّب لذهنِ القارئ معاني الخوف والذهول والخيبة في لحظات مباغتة المشركين لهم.
وعلى مدار غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن جيشُ المسلمين إلا أقل من أعدائه في العَدَد والعُدَّة، لكن النصر كان حليفَهم، يستثنى من ذلك غزوة حنين سابقة الذكر، وما جرى فيها من انهزامٍ مبدئي من العدد الكبير ونصر مبين من القلة الصابرة.
ولعل الله أراد أن يوصل للمسلمين رسالةً مُفادُها أن النجاح لا يأتي من قِبَل الكمِّ وحدَه، ولكن لا بد من انضمامِ الكيف له ليصنعا من تعانقِهما النصرَ في المعركة والنجاح في الحياة، وهذا ما نلمسه من قول الله -تعالى-: ﴿ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ... ﴾ [الأنفال: 65]، والتقييد بوصف الصبر يفتحُ آفاقًا من القِيَم التي التصقت بهذا الرجل، حتى غدا في فاعليته وإنتاجه المادي والمعنوي بمثابة مجموعة من الرجال.
ووصف الله -تعالى- إبراهيم بالأمة؛ كون هذا الرجل قد اجتَمَعت فيه القِيَم والفاعلية التي أدَّت إلى كون مفرزات فعله تعادل في أثرِها عمل الأمة، فقال -تعالى-: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾ [النحل: 120].
وبناءً على كثيرٍ من الشواهد التاريخية القرآنية وتوجيهاتِ النبي -صلى الله عليه وسلم- نستطيع القول: إن الإسلام يهدفُ إلى بناءِ العقلية الكيفية التي تَقِيس الأمور وتنتجُ الأفكار بناءً على قيميتها وكيفيتها، دون الوقوف فقط على تَعدادِها أو حجمِها أو وزنها؛ فالعبرة تقوم على محاكمة الأمر إلى مدى توافر القيم والكيفيات التي يسعى الإسلام إلى إيجادها في الفرد المسلم ومجتمعه المسلم.
وفي الجوانب الإسلامية من التشريع والأخلاق تبرز فكرة الكيف بشكل واضح، مما يؤكد أهمية هذا الجانب؛ كونه المعبِّر الحقيقي عن العمل أو الفكرة أو الشيء، ففي الجانب المعاملاتي من الفقه الإسلامي تأسَّست قواعد فقهية تراعي الجانب المعنوي أو الجانب الكيفي من الواقعة، دون النظر إلى ظاهر الحادثة؛ مثل قاعدة: "العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا الألفاظ والمباني"[2].
وجاء الحديث النبوي: ((إنما الأعمال بالنيات))[3] ليُؤكِّد على أهمية النية، التي هي في الحقيقة تفرز الأعمال المتطابقة في الظاهر إلى قسمين؛ مقبول وغير مقبول، بناءً على توجُّه القلب أثناء أداء العمل، وفي الجانب الأخلاقي كان التحذيرُ من الرياء الذي عبَّر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالشرك الأصغر تنبيهًا إلى أهمية حال الإنسان وهو يؤدي العمل الذي ظاهره الطاعة وباطنه قصد المراءة وإرادة غير الله.
وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- حقيقةَ المال الكيفية بقوله: ((يقول العبد: مالي مالي، إنما له من ماله ثلاثٌ: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس))[4]، فالمال الذي يبقى هو ما ارتبط بقيمةٍ كيفيةٍ، وهي الإنفاق في سبيل الله، وليس بقيمةٍ كمية تنبني على مقدارِ رأس المال.
وما بين استحضار بدر وحنين واستجلاب مقولات كلتا الغزوتينِ يحقُّ لنا أن نسأل اليوم وعلى أساس ما تُقدِّم العقلية العربية والإسلامية الحالية، ونحاكم مفرزاتها، لنعلم مدى انجذابها إلى الكيف، ومدى دوران محورِ المنتجات الفكرية حول مدى توافر القيم والمعاني التي طالب الإسلام من خلال مقاصده وآياته بإيجادها.
وما مدى انبناءِ اختيارنا للأشياء على الكيفِ أو الكم، وهل ما زلنا "نُكدِّس" الأشياء كما يقول ابن نبي - رحمه الله - أم نشد رحالَنا لإنشاء الحضارة التي هي في مطلقها قيمةٌ كيفية؟!
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
y.,m f]v ,pkdk td hgld.hk >