المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قيام الدول شبه المستقلة في المنطقة العربية خلال القرن الثامن عشر:


الأسد الرهيص
02-05-2013, 12:03 AM
كان ضعف الدولة العثمانية يتفاقم حقبةً بعد حقبة من جرّاء تفاعل عواملٍ عديدة منها الأزمة الإقتصادية الخانقة التي واجهتها الدولة من جرّاء التوسع الأوروبي في آسيا وأفريقيا وتحوّل طرق التجارة العالمية الرئيسة عن المرور في المنطقة وتدفق الفضة من العالم الجديد إلى أوروبا مما أدى إلى رخص أثمانها فسبب ذلك تدهور قيمة النقد العثماني الفضي. وأسهم في مفاقمة تلك الأزمة الإقتصادية استشراء الفساد الإداري في أجهزة الدولة المختلفة مما أدى إلى تبديد مواردها المالية فيما لا يغني ولا يفيد. ومن تلك العوامل أيضاً تحول الإنكشارية، وهم القوة الضاربة الرئيسة في الجيش العثماني، من عامل قوة إلى عامل ضعف حيث تكررت هزائمهم في ميادين القتال الخارجية من ناحية وتفاقمت اضطراباتهم الداخلية من ناحيةٍ أخرى. ومنها إخفاق العثمانيين في مجاراة الأوروبيين في ميادين التطوير العلمي والتنظيمي. ومنها أخيراً موقف العداء الذي اتخذته أغلب الدول الأوروبية الكبرى تجاه الدولة العثمانية والذي كان يستنزف مواردها في حروبٍ متواصلة.

انكشف ضعف الدولة العثمانية الحربي بشكلٍ واضح للعيان بهزيمة قواتها عند أسوار فيينا سنة 1683م، وبدأ بعدها تراجعها المتتابع عن ممتلكاتها الأوروبية. وكانت مراكز القوى في الولايات العربية تتربص بها لزيادة تعزيز مواقعها التي قامت بتأسيسها منذ مطلع القرن السابع عشر. فتحولت مع ازدياد ضعف الدولة العثمانية خلال القرن الثامن عشر ي إلى دول شبه مستقلة عن الدولة العثمانية، لا يربطها بالعاصمة اسطنبول إلا ”فرمان“ تولية يصدره السلطان العثماني عند الطلب لمن تختاره مراكز القوى في أغلب عواصم الولايات العربية.

ومن تلك الدول شبه المستقلة دولة المماليك [الكوله مند] في بغداد. فقد هيمن والٍ قوي اسمه حسن باشا على ولاية بغداد وحكمها باستقلالية كبيرة بين سنتي 1704 و 1723م. وحين توفي ورث إبنه أحمد باشا الولاية وأدارها على نهج أبيه المستقل بين سنتي 1723 و 1747م. وقد أكثر هذان الواليان من شراء المماليك الصغار لتربيتهم على الولاء لهم وتعليمهم فنون الحرب والقتال لتدعيم سلطتهم. وكان أولئك المماليك يُجلَبون من جورجيا [الكرج كما كانت تسمى حينئذ]. وقد تزايد عدد أولئك المماليك حتى غدوا القوة المهيمنة على الجيش والإدارة في ولاية بغداد. واستغلوا وفاة سيدهم أحمد باشا سنة 1747م فأخذوا ينصّبون من يختارونه زعيماً من بين صفوفهم والياً على بغداد، ويرسلون إسمه إلى اسطنبول كي يصدر السلطان العثماني فرمان توليته. وقد اتسم حكم المماليك بتجدد الصدامات مع جارتهم فارس، كما شهد حروباً مريرة مع القبائل العراقية التي كانت تنظر لهم باستهانة باعتبارهم عبيداً متمردين على سادتهم مما يؤجج فيها الرغبة المتأصلة في الخروج على سلطة حكومتهم في بغداد. وقد ظل حكم المماليك قائماً حتى تمكن السلطان العثماني المصلح محمود الثاني من إرسال حملة حربية قضت عليهم سنة 1831م. إذ كان من مباديء السياسة الإصلاحية لذلك السلطان إعادة فرض سيطرة الحكومة المركزية على ولاياتها المختلفة.

وقامت في الموصل شمال بغداد دويلة شبه مستقلة أخرى تعاقب على حكمها أبناء الأسرة الجليلية [نسبةً إلى جدهم عبدالجليل]. وكان عميدهم إسماعيل الجليلي تاجراً موصلياً موسراً فتبرع بمبلغٍ كبيرٍ من المال للحملة الحربية العثمانية ضد فارس سنة 1723م. فكافأه السلطان العثماني على تبرعه بمنحه لقب الباشوية وتعيينه والياً على الموصل. وظل أبناء أسرته يتداولون ولاية الموصل من بعده حتى أنهى السلطان محمود الثاني حكمهم سنة 1833م. وقد شهدت مدينة الموصل في عهدهم إزدهاراً ثقافياً ونشاطاً اقتصادياً كبيراً. ولعل أبرز ما حدث في عصرهم من أحداث حملة الحاكم الفارسي نادر شاه على الموصل وحصاره الشديد لها سنة 1743م. ولكن مقاومة سكان المدينة الباسلة تحت قيادة الجليليين ردته على أعقابه بعد أن كبدته خسائر فادحة.
وشهدت دمشق وبعض أقسام بلاد الشام ظهور أسرة العظم وكان أول من برز منها إسماعيل العظم الذي كان رجلاً طموحاً، تمكن من الحصول على رتبة الباشوية وتولى إدارة معرة النعمان ثم حماه ثم طرابلس وأظهر كفاءة في إدارته لتلك المناطق لفتت له أنظار الحكومة المركزية في اسطنبول.

وتصادف في هذه الأثناء اضطراب الأوضاع الأمنية في ولاية دمشق بسبب فوضى الإنكشارية وكثرة تعديات الأعراب على قافلة الحج الشامي السنوية. فأصدر السلطان العثماني فرماناً بتعيين إسماعيل العظم والياً على دمشق سنة 1724م لعله يستطيع وضع حدٍ لذلك الحال المتفاقم. وقد نجح إسماعيل في إنجاز تلك المهمة، فترسخ نفوذه ثم نفوذ أسرته في البلاد. وتولى كثرٌ من أبناء أسرته ولاية دمشق وأجزاء أخرى من بلاد الشام وأظهروا مقدرةً واضحة في صيانة الأمن العام مما أدى إلى ازدهار النشاط التجاري في بلاد الشام. ويلاحظ أن حكام أسرة العظم كانوا أكثر انقياداً لسلطة الحكومة المركزية من أقرانهم من الحكام المعاصرين شبه المستقلين. يدل على ذلك إذعانهم لأوامر السلطان القاضية بنقلهم من ولاية لأخرى أو عزلهم من مناصبهم أو إيقاع عقوبة الإعدام ببعضهم.

وقد أسفر الصراع بين القيسية واليمانية في جبل لبنان عن قيام الإمارة الشهابية (قيسية) سنة 1697م. وكان الأمراء الشهابيون يسعون لاستثمار الضعف العثماني المتزايد لتعزيز استقلالهم من جانب والتوسع في مناطق بلاد الشام المجاورة من جهة أخرى. وقد قادهم ذلك لصداماتٍ عديدة مع القوات العثمانية ومراكز القوى المنافسة في بلاد الشام. كما فتحت تلك الصراعات أبواب بلاد الشام لتدخلات الدول الأوروبية. وتعزز خلال حكم الإمارة الشهابية نظام الإقطاع، وبرزت الكثير من أسر ”المقاطعجية“ الذين قاموا بدور الوسيط بين الأمير الشهابي والفلاحين. وقد تحولت تلك الأسر خلال الحقب التالية إلى نواة ”للأرستقراطية“ السياسية اللبنانية. ومن أبرز الأمراء الشهابين بشير الثاني (1788-1840م) الذي كان ذا طموحاتٍ واسعة قادته للصدام مع ولاة الدولة العثمانية وتكثيف اتصالاته بالدول الأوروبية. وقد تحالف مع محمد علي باشا حاكم مصر ورحب باحتلال قواته بلاد الشام. ولذلك لا عجب أن يفقد الأمير عرشه وتنحل إمارته عند نجاح العثمانيين وحلفائهم الأوروبيين في طرد قوات محمد علي باشا من بلاد الشام سنة 1840م.

وبرزت في فلسطين خلال القرن الثامن عشر شخصيتان لعبتا دوراً كبيراً في أحداث المنطقة. أولهما شخصية ظاهر العمر، الذي اتخذ شمال فلسطين قاعدةً لحكمه، وأخذ يتطلع لمد نفوذه في المناطق المجاورة مما جره للإحتكاك مع العثمانيين والقوى المحلية المجاورة. وحاول تعزيز قوته باللعب على حبل الصراعات المحتدمة بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية، فتحالف مع الروس ضد العثمانيين. ولكن مغامرته انتهت بمقتله على يد بعض جنده سنة 1775م. ولم تتح له الفرصة لتحويل حكمه إلى حكم وراثي لأسرته من بعده. وكذلك كان الحال مع ثاني تينك الشخصيتين وهو أحمد باشا الجزار الذي كان عسكرياً مغامراً قاده طموحه للسيطرة على ميناء عكا. ومن هناك أخذ يتدخل في الصراعات بين القوى المجاورة مثل الشهابيين وأسرة العظم والولاة العثمانيين في بلاد الشام من أجل تعزيز نفوذه. ويُسَجَّل للجزار نجاحه في التصدي لحملة نابليون بونابرت حين زحف على عكا سنة 1799م ولكنه صد عن دخولها. وقد توفي الجزار سنة 1804م.

أما في مصر فقد ظل نفوذ الأمراء المماليك قوياً على الرغم من سقوط دولتهم منذ سنة 1517م. وكان ذلك النفوذ مستمداً من الثراء الكبير الذي حازوه والمكانة السياسية الموروثة. فتحولوا بذلك إلى مراكز قوى تنافس الولاة الذين تعينهم اسطنبول لحكم مصر. واصطبغ تاريخ مصر في تلك الفترة بكثرة الصراعات بين الطرفين. وقد برز من بين صفوف الأمراء المماليك خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر علي بك الكبير الذي نجح في الوصول إلى منصب ”شيخ البلد“ سنة 1763م. وأخذ من منصبه ذاك ينافس الوالي العثماني. واستغل انشغال السلطات المركزية العثمانية بالحرب مع روسيا (1771-1774م) فطرد الوالي العثماني من القاهرة وأعلن قطع صلته مع الحكومة المركزية في اسطنبول. ولم يكتف علي بك الكبير بمصر بل طمح للتوسع في المنطقة المجاورة فأرسل حملة بقيادة زميله محمد بك أبو الذهب ضمت الحجاز إلى سيطرته. ثم نجحت تلك الحملة في ضم بعض بلاد الشام من خلال التحالف مع ظاهر العمر. وسرعان ما حدث شقاقٌ بين علي بك وزميله محمد أبو الذهب، تمكن أبو الذهب من حسم الصراع لصالحه حين قتل علي بك سنة 1773م. فانفرد محمد بك أبو الذهب بالسلطة في مصر حتى وفاته سنة 1775م. وقد ظل المماليك بعده قوة مؤثرة في مصر، كان لها دورٌ كبير في مقاومة حملة نابليون إلى مصر سنة 1798م. ولم يتضاءل دور المماليك السياسي في مصر إلا بعد تولي محمد علي باشا مقاليد الأمور هناك وتدبيره مذبحة القلعة المشهورة لأمراء المماليك سنة 1811.

اتصف حكم الدايات في ليبيا بفوضى الأنكشارية وتجاوزاتهم على السكان مما هيء الفرصة لشخصٍ تركي الأصل هو أحمد باشا القرمانلي أن يتولى مقاليد الحكم في ليبيا سنة 1711م، فبدأ بذلك حكم الأسرة القرمانلية التي ظلت تتداول الحكم طيلة أكثر من مائة وعشرين سنة. وقد نجح أحمد باشا في قمع الأنكشارية، وحرص على تثبيت دعائم حكمه في ليبيا من خلال كسب ود سكانها العرب فاعتمد عليهم في الجيش والإدارة وأعطى بذلك لحكمه ملامح عربية. واهتم أحمد باشا بتقوية أسطوله البحري وزجّه في معارك بحرية ضد سفن الدول الأوروبية في البحر المتوسط. ومن أبرز حكام الأسرة القرمانلية يوسف باشا (1795-1832م) الذي ازدهرت الحياة الإقتصادية في ليبيا في عهده من جرّاء نشاط تجارة القوافل مع أفريقيا عبر الصحراء. كما ازدادت الغنائم التي يحققها الأسطول من أنشطته في البحر المتوسط. وقد أدت تلك الأنشطة إلى سلسلة معارك مع الدول الأوروبية، من أشهرها الحرب المعلنة مع الولايات المتحدة الأمريكية (1801-1805م). وشهدت السنين الأخيرة من حكم يوسف باشا ازدياد التدخل الأنجلو ـ فرنسي في شؤون ليبيا لأن تينك الدولتين أرادت استخدام ليبيا معبراً إلى أفريقيا جنوب الصحراء. كما شهدت صراعاتٍ حادة على السلطة بين أفراد أسرته. وقد هيأت تلك الصراعات الفرصة للسلطان العثماني محمود الثاني لإرسال حملةٍ بحرية إلى طرابلس الغرب قضت على حكم الأسرة القرمانلية وأعادت ليبيا إلى الحكم العثماني المباشر سنة 1835م.

ونشأت في تونس دولة شبه مستقلة أيضاً، حين اختار أعيان تونس وعلماؤها آغا الإنكشارية حسين بن علي ونصّبوه ”باياً“ سنة 1705م. وتعزز وضعه بحصوله على فرمان من السلطان العثماني يجعل حكم تونس وراثياً في أسرته من بعده. وعُرِفَت تلك الأسرة بـ”الحسينية“ نسبةً إلى مؤسسها وتداول حكم تونس من أبنائها تسعة عشر باياً حتى أنهى الحبيب بورقيبة حكمها سنة 1957م. وقد شهد نصف القرن الأول من حكم تلك الأسرة صراعاً حاداً على السلـطة بين أفراد الأسـرة الحاكمة. وتميّز من بين البايـات الحسينيين حموده باشـا (1783-1814م) الذي اتبع سياسة إصلاحية قادته إلى إلغاء الإنكشارية وإدخال عدة تطويرات تحديثية في تونس. وشهد عهده صراعات حربية مع بعض الدول المطلة على البحر المتوسط.

نيروز
02-05-2013, 12:29 AM
الله يعطيك الف عافيه ,
سلمت يداك .
لك التقدير.